الجمعة، 17 سبتمبر 2010

رسالة إلى المؤتمر الوطني‎- الحلقة الثانية ‎- فشل الممارسة

هذا المقال تم نشره أيضا بالتعاون مع صحيفة الأحداث السودانية:
http://www.alahdath.sd/details.php?type=a&scope=a&version=143&catid=6
فشل الممارسة
نقطة القصور الأولى على صعيد الممارسة هي في نظري أنكم بدأتم تجربتكم الإسلامية الحالية بإنقلاب عسكري، أطاح بحكومة منتخبة ديمقراطيا ، وهي حكومة  السيد الصادق المهدي. ومهما كان رأينا في أداء تلك الحكومة، فان إسقاطها بالقوة العسكرية كان عملا غير دستوري. وهكذا فأنكم دخلتم تاريخ  الحكم في السودان كانقلابيين، بدلا من محررين، بعد أن قررتم أن تبدؤا تجربتكم في الحكم بعمل لا يسنده قانون البلاد الأساسي، بينما كانت البلاد تقترب من تحقيق سلام شامل، لم يعارضه إلا أنتم، وقد كنتم قلة، حوالى الخمس، في برلمان الشعب المنتخب. وفي نظري فان ذلك كان خطأ إستراتيجيا وتاريخيا ، إذ أنه ألصق بالحركة الإسلامية السودانية صفة العداء للحرية، كما ساقول لاحقا، وطرح سؤالا كبيرا على مجمل سعيكم السياسي والفكري، وعلى موقع وقيمة الحرية في فكركم، تلك الحرية التي ولدتنا بها أمهاتنا. وكان الأجدر بكم أن تواصلوا نضالكم من داخل البرلمان، خاصة وأنه كانت تبقت سنة واحدة للإنتخابات، وان أدائكم في المعارضة كان ممتازا. ومن منا ينسى الرجل البليغ الأستاذ علي عثمان، زعيم المعارضة أنذاك، بحججه  القوية، وكلامه المعقول.
وحتى حينما أُتِيْحَت لكم ، أو أتحتم لانفسكم ، الفرصة ثانية هذا العام لتكونوا طليعة وقادة لتحول ديمقراطي حقيقي يقود الى سودان عصري، كان الفتور والتثاقل ديدنكم، وذلك على أحسن الظن. ولا أريد هنا أن ألومكم بمفردكم على إضاعة  تلك الفرصة التاريخية. فمعارضوكم  يشاركونكم قطعا المسؤولية بعجزهم وبانسحاباتهم وأحكامهم المسبقة. والقول الآن بأنكم منتخبون ضعيف عندي، حتى تعلنوا للناس أن لديهم فرص أخرى قادمه لإبداء رايهم فيكم وفي غيركم، بإنتظام، في إنتخابات لا يقال عنها أنها "لم ترق إلى المعايير الدولية."

أما النقطة الثانية فهي أنكم قدمتم نموذجا للحكم معاد للحريات. فالحرية في دولتكم منحةٌ تمنحونها وتمنعونها متى تشاءون. والأصل في الحرية أن تكون حقا لكل مواطن، تحميه الدولة و تدافع عنه، لا أن تتغول عليه. وممازاد في تعقيد تجربتكم أنكم ربطّموها بالإسلام وقيمه، حتى أصبح  فشلكم يُضْرَبُ مثلاً من قبل أعداء الإسلام، والجاهلين به، لفشل الإسلام، وقد تعالى هذا الدين العظيم عن ذلك علوا كبيرا.
والمتابع لتاريخكم يجدكم من رواد الحريات والمطالبة بها، ولكن فقط حينما تكونون في المعارضة. أما حينما تأتون إلى السلطة، فشآنكم مختلف تماما. وواضح من هذا أنكم لا تعارضون الحريات من منطلق مبدئى، بدليل جهودكم المعروفة لإستردادها، مثل بروز الدكتور الترابي كاحد قادة ثورة أكتوبر، وأعمالكم  ضد مايو في أولها. ولكنكم  تتنكرون للحريات وأنتم  في السلطة. وهذا أمر لا يجتمع والمواقف المبدئية.

والنقطة الثالثة في ناحية فشل الممارسة السياسية هي نشركم لثقافة الحرب، بدلا من ثقافة السلام، في وطن أرهقته الحرب أصلا، حتى قبل مجيئكم. ولكن حينما أتيتم إلى السلطة في ١٩٨٩، قمتم بعسكرة المجتمع السوداني، من أطفاله إلى عماله،  وتدريب قوات موازية لجيشه وشرطته الوطنيين، وحولتم الحرب الأهلية في جنوب البلاد إلى حرب دينية، قتلَتْ الأبرياء، ونسفَتْ نسيج البلاد الإجتماعي، وشوهت سمعتها أيما تشويه في أنحاء العالم. ومَنْ منا ينسى برنامج "في ساحات الفداء " التلفزيوني، و أغان دموية مثل:
لغة الدما لغتي و ليس سوى الدما... أنا عن فنون القول أغلَقْتُ الفما
وتركْتُ للرصاص أن يتكلما... ليُحيل  أوكار العدو جهنما
وكان أغلب السؤدانيين يمنون أنفسهم بسلام شامل بعد أن وقفت الحرب في الجنوب، ووقعتم سلاما مع الحركة الشعبية، هو أسوأ كثيراً للسودان فى نظر الكثيريين فى الشمال والجنوب، من السلام الذى رفضتموه فى ١٩٨٩. ولكن بدلاً من سلامٍ يجمع شمل الأمة، اشتعلت الحرب  في مكان حبيب أخر من بلادنا، وهو دارفور. وهي لا تزال تشتعل، وهي الآن لاتُذْكَرُ حتى تذكر الإبادةُ الجماعية و جرائمُ الحرب مرتبطتان  باسم  السودان.
ومن الحقائق الدامغة أن الحرب في السودان لم تقف في عهدكم يوما واحدا. ألا ترون يا سادتي أن هنالك مأساة وطن، و فشل دولة، حينما لا تقف الحرب يوما واحدا منذ مجيئكم إلى الحكم في ١٩٨٩؟ كم مرة أعلنتم في السنوات العشرين ونيف الماضية أن عام كذا سيكون عاما للسلام؟ وكم مرة مر ذلك العام والحرب مستمرة، والسلام الشامل بعيد المنال؟ ألا ترون أن عشرين عاماً ونيف من الحرب بين أبناء وطنٍ واحد تكفى لتقولوا لأنفسكم أَنْ قد كَفَى؟

والنقطة الرابعة هي معاداتكم  للعالم الذي تعيشون فيه. فالسودان أصبح منذ مجيئكم إلى حكمه دولة سيئة السمعة في كثير من أنحاء العالم. فاسم بلادنا الحبيبة صار على كثير من القوائم غير المُشَرِّفة، مثل الإرهاب والإبادة الجماعية والتخلف التنموي وسوء الإدارة والفساد والفشل وما شابه ذلك. والقول بان العالم  يستهدفنا لقيمنا كلام مردود، لأن نفس هذا العالم لم يستهدف دولا أخرى كثيره لها نفس قيمنا، مثل تركيا، وماليزيا وإندونيسيا والمغرب وقطر. وهو قول ومنطق يؤسس لثقافة لا تحاسب المخطي، ولا تنتقد نفسها كي تتطور. وهو يشبه كثيرا قول وسلوك المحافظين الجدد هنا في الولايات المتحدة حين فَسّروا معارضة المسلمين للحرب العالمية على الإرهاب بأنها "حسد" من قبل المسلمين على القيم التي ينعم بها الأمريكان. وأُوافقكم  الرأي بأن بعض الدول الكبرى، أحيانا تستخدم المنظمات الدولية لتحقيق مصالحها الخاصة. ولكن لا يوجد مثال واحد على أن هذه الدول أو تلك المنظمات قد أنزلت عقوبات على دولة ديمقراطية تحترم شعبها، وتحكم بالقانون. كما أنه لا يوجد مثال واحد على أن هذه الدول، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والنرويج ، قد بَدَأَتْ لنا حروبنا الأهلية، أو إنقلاباتنا العسكرية ، أو عملَتْ جاهدة  لمنعنا من تحقيق السلام. وإتفاقية نيفاشا هي خير دليل على أن هذه الدول التي تسمونها جملة "بالغرب" هي في الحقيقة مَنْ ساعدنا في الوصول إلى ذلك السلام، وهي التي يساعدنا ممثلوها الآن في حلحلة مشاكلنا، وذلك بكامل رضاكم و مشاركاتكم الفاعلة.

وخامس نقاط فشل ممارستكم هو أنكم استبدلتم العدل بين الناس بالأمن لأنفسكم. فبدلًا من أن تعدلوا حتى تأمنوا، أقمتم دولةً بوليسية أمنية تصرفون عليها ٦٠% أو هكذا من واردات السودان حسب قول إحدى وزرائكم، وذلك كي تأمنوا سخط شعبكم، في حين أن إحدى أعظم قيم الحكم في الإسلام أن العدل أساس الحكم،  وهو ما جعل المسلمين يتعلقون بخلفائهم الراشدين حتى بعد ١٤ قرناً من ذهابهم، لأن قيمهم بقت معنا، رضي الله عنهم جميعا. وقد لخّص شاعر النيل حافظ إبراهيم ذلك في قصيدة جميلة معروفة، يصِف فيها كيف أن رسول كسرى المنهزم في القادسية قدِمَ إلى المدينة لمقابلة الخليفة المنتصر عمر بن الخطاب، فوجده نائماً تحت شجرة، بدلاً من قصر منيف، وبِلا حُراس:
وراع صاحب كسرى أن رأى “عُمرا”
بين الرعية عطلا وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها
سورا من الجند والأحراس يحميها
فهان في عينيه ما كان يكبره
من الأكاسر والدنيا بأيديها
وقال قولة حق أصبحت مثلا
وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم
فنمت نوم قرير العين هانيهاوالحقيقة أن نشر الأمن عبر نشر العدل هو إحدى أعظم  وأروع  وأبلغ قيم الإسلام في مسألة الحكم. وإنه والله لَمُحزِنٌ جداً ومؤسف أنْ يأت إخوانٌ لنا، هم أنتم، ليُؤسّسوا حكماً بإسم الإسلام، يقدمون فيه أمنهم على العدل بين الرعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق