الاثنين، 20 ديسمبر 2010

لا كهنوت في الإسلام


أوردت صحيفة الرأي العام السودانية الصادرة بتاريخ السبت ١٨ ديسمبر الحالي خبرا أفاد بأن الشيخ الدكتور عبدالحي يوسف، إمام  وخطيب  مسجد إمام المرسلين بجبرة، قد شن "هجوما عنيفا على الرافضين لجلد الفتاة التي ظهرت على شريط الفيديو." وقد ذكرت الصحيفة أن الشيخ قد إتهم منتقدي الحادثة بأنهم "بقايا شيوعيين" وإنهم "يسعون لتقويض الشريعة." وأنا هنا أقتبس من تقرير الصحيفة، مما يعني أن الشيخ قد لايكون قد إستخدم نفس هذه المفردات التي وضعتها أنا بين علامات الإقتباس. وأيا كان الحال، فلا الشيخ ولا الصحيفة قد أعترض على ما جاء في هذا الخبر حتى كتابة هذه السطور (٢٠ ديسمبر)، مما يعني أن كليهما يوافقان على ما جاء في الخبر المذكور، إلى أن تثبت الوقائع غير ذلك.

والدكتور عبدالحي هو أيضا شخصية دينية تلفازية معروفة، لها أتباعها الكثر وسط سلفي السودان، والسلفيين عموما. وهو أيضا إستاذ جامعي،  وعضو هيئة علماء السودان، تلك الهيئة المقربة من حزب المؤتمر الوطني الحاكم. وهذه ليست المرة الأولى التي يختار فيها الشيخ أن يلقي بوزنه الديني خلف أمر يفرق بين السودانيين. فقد دعمت هيأته ترشيح الرئيس البشير وحده في الانتخابات الرئاسية الماضية (أبريل ٢٠١٠)، كما أصدرت فتاوى تحرم على السودانيين المسلمين تاجير مبانيهم لإخوتهم في الحركة الشعبية. وتدخلت الهيئة في مثال ثالث  حين اعترضت على طلب مفوضية غير المسلمين رفع بعض القيود التي تضيق على السودانيين غير المسلمين في عاصمتهم القومية (سبتمبر ٢٠١٠).

ومن حق الشيخ بالطبع أن يعتنق ما يشاء من أراء سياسية، ولكن إن أراد أن يترك التقويم والإرشاد الروحي، وأن يأتينا هنا في أضابير السياسة، محتجا بأنه لايفرق بينها وبين الدين، فلا يتوقع منا أن نفرق بينه وبين أهل الإسلام السياسي في السودان، الذين أضاعوا بلادنا وهم يحاولون الجمع بين أختي الحكم العضود والتقوى. فهما لا يجتمعان أيها الشيخ.

وليسمح لي الشيخ بأن أقترح عليه منكرا واحدا هائلا  يمكنه العمل على تقويمه. إنه الفساد المستشري في دولة السودان التي ينافح عنها. ولا أقول ذلك مستندا على مصادر معادية للحكومة. فقد طلب السيد مراجع عام حكومة السودان هذا العام من السيد رئيس المجلس الوطني الحالي مساعدته في إسترجاع الأموال التي إختفت من خزانات الدولة، وفي إخضاع بعض مؤسسات الدولة، الخارجة على قانون الإنقاذ نفسه، للمراجعةكما ذكر الرئيس البشير، حسب تقارير إخبارية، أن هنالك فساد تم فيما يتعلق بطريق الإنقاذ الغربي الشهير، وذلك في ردوده على إخوانه السابقين في المؤتمر الشعبي. فَلْيُرِنا الشيخ عبدالحي هذه  الهَبّة المنبرية، التي أبداها في الهجوم على فتاة ربما هي في أمس الحاجة إلى عناية طبية، في الدفاع عن أموال السودان العامة. فإن فعل، فسنكون والله من أوائل المشيدين به، والمنوهين بقدره. وسيُصْلِح  الله به أمة كاملة، بدلا من فتاة واحدة. وسيصبح من أهل العزائم الكبرى، لأنه "على قدر أهل العزم تأتى العزائم." وإن لم يفعل، فسيحفظ له التاريخ أنه كان من "فقهاء الفروج"، الذين لا يتراوح عَالَُمهم الفقهي جسد المرأة، والذين يتجاهلون سوءات الحكام الأقوياء، ويختلقون لهم الأعذار والفتاوى، بينما يهبون غاضبين من على منابرهم، يدينون الضعفاء منا، ولا يلوون على رحمة أو عذر مما شرعه لنا ديننا الحنيف.

لا أذكر في سودان ما بعد الإستقلال أية شريحة في المجتمع السوداني تشبه في فشلها وخذلانها وقصورها في الأخذ بيد أمتها مثل فقهاء الإسلام السياسي. وأشد ما يقلق في شأن هؤلاء القوم، ومن بينهم الشيخ الدكتور عبدالحي، هو أنهم، خلافا لنا جميعا، غير قابلين للمساءلة عما يقولون في سودان الإنقاذ أمام أية سلطة بشرية، برلمانية كانت أم قانونية، أو غير ذلك. إنهم يتخذون لأنفسهم الحق في أن يفتوا من على منابرهم في أمور وحدتنا وانفصالنا، ودستورنا وتعايشنا مع بعضنا وموتنا وحياتنا. كلنا نحاسب على مسؤولياتنا في هذه الدنيا، وفي الآخرة. أما هم فحسابهم في الآخرة فقط أمام ربهم، أي بعد أن تقوم القيامة، حرفيا. كل السودانيين غير المتنفذين، وكل البشر في دول المؤسسات الدستورية،  يحاسبون أمام القانون، أما هؤلاء الشيوخ، فيظنون أن لهم أجرا إذا أخطاؤوا، وأجرين إن أصابو


ينبغي أن يضع مسلمو السودان الحريصون على إسلام معاصر حدا لمثل هذا الفهم للدين واستغلاله للتحكم في آراء الناس السياسية بواسطة الفقهاء مثل الدكتور عبدالحي، وذلك بأن يرفضوا الدور السياسي والديني المُضِر الذي يلعبه هولاء الفقهاء لمصلحة نظام  يصادر حريات أهل السودان، ويسفك دماءهم بلا وازع أو تردد. فإن لم يفعلوا، فعليهم أن يقبلوا ما يقوله أعداء الإسلام عنه، من أنه دين ليس فيه مكان للحرية والديمقراطية والسلام؛ من أنه دين ليس فيه مكان للأقليات والمرأة ودولة القانون، إذ لا يمكن الجمع بين دولة الإنقاذ الإسلاموية وبين هذه القيم. الخيار واضح إذن أمامنا: إما أن هذه الإدعاءات عن الإسلام غير صحيحة، وهي والله كذلك، أو أن إسلام الإنقاذ غير صحيح، لانه لا يتوافق مع هذه القيم.

إن من أروع قيم الإسلام أنه لا توجد فيه واسطة بين العبد وربه، مما يعني أن المسلم بمقدوره أن يذهب إلى مصادر دينه مباشرة، من غير الحاجة إلى كهنوت يحيل بيننا وبين ربنا. ليست هنالك صكوك غفران في الإسلام، حتى ننتظرها من الشيخ عبدالحي أو إخوته في هيئة علماء السودان. فعلي مسلمي السودان اليوم إما أن يواصلوا إعطاء شيوخ السياسة هؤلاء ما لايستحقون من سلطات لا تقبل المساءلة البشرية في هذه الحياة الدنيا، أو أن يتركوهم ويذهبوا ليصلوا خلف شيوخ يسعون بيننا بالرحمة، والرأفة  وحقن الدماء. فوالله لا هذا الشيخ ولا غيره يملكون لنا ضرا ولا نفعا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق